الأحد، 2 نوفمبر 2014

الحرية في الإسلام

جعل الإسلام "الحرية" حقاً من الحقوق الطبيعية للإنسان، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض. ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن "الحرية" أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوى خارجية، كالخوارق والمعجزات ونحوها قال تعالى:((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) فنفي الإكراه في الدين، الذي هو أعز شيء يملكه الإنسان، للدلالة على نفيه فيما سواه وأن الإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه لا يفرض عليه أحد سيطرته، بل يأتي هذه الأمور، راضياً غير مجبر، مختاراً غير مكره.

1/ مفهوم الحرية: يقصد بالحرية قدرة الإنسان على فعل الشيء أوتركه بإرادته الذاتية وهي ملكة خاصة يتمتع بها كل إنسان عاقل ويصدر بها أفعاله ،بعيداً عن سيطرة الآخرين لأنه ليس مملوكاً لأحد لا في نفسه ولا في بلده ولا في قومه ولا في أمته.

هل "الحرية" تعني الإطلاق من كل قيد ؟
لا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط، لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة ، ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه ، ولذلك منع من اتباعه، والإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه مدني بطبعه، يعيش بين كثير من بني جنسه، فلم يقر لأحد بحرية دون آخر، ولكنه أعطى كل واحد منهم حريته كيفما كان، سواء كان فرداً أو جماعة، ولذلك وضع قيوداً ضرورية، تضمن حرية الجميع ، وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي :
أ- ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.
ب- ألا تفوت حقوقاً أعظم منها،وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.
ج - ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.
وبهذه القيود والضوابط ندرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفرد على حساب الجماعة ،كما لم يثبتها للجماعة على حساب الفرد ،ولكنه وازن بينهما ،فأعطى كلاً منهما حقه.


أنواع الحرية:
- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية
- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية


الصنف الأول : الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية ، وهذا الصنف يشمل الآتي:
أ - الحرية الشخصية: والمقصود بها أن يكون الإنسان قادراً على التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه، في نفسه وعرضه وماله، على ألا يكون في تصرفه عدوان على غيره. والحرية الشخصية تتضمن شيئين :
1) حرمة الذات: وقد عنى الإسلام بتقرير كرامة الإنسان ، وعلو منزلته. فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره ، قال تعالى:((ولقد كرمنا بني آدم)) ، وقال تعالى:((وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)) وميزه بالعقل والتفكير تكريماً له وتعظيماً لشأنه، وتفضيلاً له على سائر مخلوقاته، وفي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً : " أول ما خلق الله العقل قال له اقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال له عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب"، وفي هذه النصوص ما يدعو إلى احترام الإنسان، وتكريم ذاته، والحرص على تقدير مشاعره، وبذلك يضع الإسلام الإنسان في أعلى منزلة، وأسمى مكان حتى أنه يعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله ، قال تعالى :((من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)). وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أياً كان الشخص، رجلاً أو امراة، حاكماً أو محكوماً، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين. حتى اللقيط في الطرقات و نحوها، يجب التقاطه احتراما لذاته و شخصيته، فإذا رآه أحد ملقى في الطريق، وجب عليه أخذه، فإن تركوه دون التقاطه أثموا جميعاً أمام الله تعالى، و كان عليهم تبعة هلاكه. هذا و كما حرص الإسلام على احترام الإنسان حياً، فقد أمر بالمحافظة على كرامته ميتاً، فمنع التمثيل بجثته، و ألزم تجهيزه و مواراته ،و نهى عن الاختلاء و الجلوس على القبور.

2) تأمين الذات: بضمان سلامة الفرد و أمنة في نفسه و عرضه و ماله:
فلا يجوز التعرض له بقتل أو جرح، أو أي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان على البدن كالضرب و السجن و نحوه، أو على النفس و الضمير كالسب أو الشتم و الازدراء و الانتقاص وسوء الظن و نحوه، و لهذا قرر الإسلام زواجر و عقوبات، تكفل حماية الإنسان و وقايته من كل ضرر أو اعتداء يقع عليه، ليتسنى له ممارسة حقه في الحرية الشخصية. وكلما كان الاعتداء قوياً كان الزجر أشد، ففي الاعتداء على النفس بالقتل و جب القصاص، كما قال تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى))، أو كان الاعتداء على الجوارح بالقطع و جب القصاص أيضاً كما قال تعالى :((و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص)) و منع عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – الولاة من أن يضربوا أحداً إلا أن يكون بحكم قاض عادل، كما أمر بضرب الولاة الذين يخالفون ذلك بمقدار ما ضربوا رعاياهم بل إنه في سبيل ذلك منع الولاة من أن يسبوا أحداً من الرعية، ووضع عقوبة على من يخالف ذلك.

ب-حرية التنقل (الغدو و الرواح ): والمقصود بها أن يكون الإنسان حراً في السفر والتنقل داخل بلده وخارجه دون عوائق تمنعه. والتنقل بالغدو والرواح حق إنساني طبيعي ،تقتضيه ظروف الحياة البشرية من الكسب والعمل وطلب الرزق والعلم ونحوه ،ذلك أن الحركة شأن الأحياء كلها ،بل تعتبر قوام الحياة وضرورتها وقد جاء تقرير ((حرية التنقل )) بالكتاب والسنة والإجماع ففي الكتاب قوله تعالى : ((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه و أليه النشور)) و لا يمنع الإنسان من التنقل إلا لمصلحة راجحة ،كما فعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في طاعون عمواس، حين منع الناس من السفر إلى بلاد الشام الذي كان به هذا الوباء، و لم يفعل ذلك الا تطبيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرض و انتم بها فلا تخرجوا فرار منه)، و لأجل تمكين الناس من التمتع بحرية التنقل حرم الإسلام الاعتداء على المسافرين، والتربص لهم في الطرقات، و أنزل عقوبة شديدة على الذين يقطعون الطرق ويروعون الناس بالقتل و النهب و السرقة، قال تعالى : ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم)) و لتأكيد حسن استعمال الطرق و تأمينها نهى النبي صلى الله عليه و سلم صحابته عن الجلوس فيها، فقال: (إياكم و الجلوس في الطرقات ،قالوا: يا رسول الله ،ما لنا بد في مجالسنا، قال: فإن كان ذلك، فأعطوا الطريق حقها، قالوا: و ما حق الطريق يا رسول الله ؟قال: غض البصر و كف الأذى، و رد السلام، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر )، فالطرق يجب أن تفسح لما هيئ لها من السفر و التنقل و المرور، و أي استعمال لغير هدفها محظور لا سيما إذا أدي إلى الاعتداء على الآمنين، و لأهمية التنقل في حياة المسلم وأنه مظنة للطوارئ، فقد جعل الله تعالى ابن السبيل- وهو المسافر- أحد مصارف الزكاة إذا ألم به ما يدعوه إلى الأخذ من مال الزكاة ، ولو كان غنياً في موطنه .

ج-حرية المأوى و المسكن: فمتى قدر الإنسان على اقتناء مسكنه ،فله حرية ذلك، كما أن العاجز عن ذلك ينبغي على الدولة أن تدبر له السكن المناسب، حتى تضمن له أدنى مستوى لمعيشته.
روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)، وقد استدل الإمام ابن حزم بهذا الحديث وغيره على أن أغنياء المسلمين مطالبون بالقيام على حاجة فقرائهم إذا عجزت أموال الزكاة والفيئ عن القيام بحاجة الجميع من الطعام والشراب واللباس والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، والدولة هي التي تجمع هذه الأموال وتوزعها على المحتاجين ولا فرق في هذا بين المسلمين وغيرهم لأن هذا الحق يشترك فيه جميع الناس كاشتراكهم في الماء والنار فيضمن ذلك لكل فرد من أفراد الدولة بغض النظر عن دينه.
فإذا ما ملك الإنسان مأوى و مسكن ،فلا يجوز لأحد ،أن يقتحم مأواه ،أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل خليفة، أو حاكماً أعلى –رئيس دولة- ما لم تدع إليه ضرورة قصوى أو مصلحة بالغة، لأن الله تعالى يقول :((يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها ذلكم خيركم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم و الله بما تعملون عليم )) و إذا نهى عن دخول البيوت بغير إذن أصحابها، فالاستيلاء عليها أو هدمها أو إحراقها من باب أولى، إلا إذا كان ذلك لمصلحة الجماعة، بعد ضمان البيت ضماناً عادلاً، و هذه المصلحة قد تكون بتوسعة مسجد، أو بناء شارع، أو إقامة مستشفى، أو نحو ذلك، و قد أجلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه –أهل نجران، و عوضهم بالكوفة. ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها حرم الإسلام التجسس، فقال تعالى :(( و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا )) وذلك لأن في التجسس انتهاكا لحقوق الغير والتي منها :حفظ حرمة المسكن، وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره. بل و بالغ الإسلام في تقرير حرية المسكن بأن أسقط القصاص والدية عمن انتهك له حرمة بيته، بالنظر فيه و نحوه، يدل على ذلك حديث أبى هريرة –رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه) وهدرت:أي لاضمان على صاحب البيت. فعين الإنسان –رغم حرمتها وصيانتها من الاعتداء عليها وتغليظ الدية فيها –لكنها هنا أهدرت ديتها بسب سوء استعمالها واعتدائها على حقوق الغير .

د-حرية التملك: و يقصد بالتملك حيازة الإنسان للشيء و امتلاكه له، و قدرته على التصرف فيه، و انتفاعه به عند انتقاء الموانع الشرعية،  و له أنواع و وسائل نوجزها في الآتي:
1) أنواع الملكية: للملكية أو التملك نوعان بارزان،هما:تملك فردي ،و تملك جماعي.
فالتملك الفردي: هو أن يحرز الشخص شيئاً ما ،و ينتفع به على وجه الاختصاص و التعين.
وقد أعطى الإسلام للفرد حق التملك، و جعله قاعدة أساسية للاقتصاد الإسلامي، و رتب على هذا الحق نتائجه الطبيعية في حفظه لصاحبه، و صيانته له عن النهب و السرقة ،و الاختلاس و نحوه ،ووضع عقوبات رادعة لمن اعتدى عليه ،ضمانا له لهذا الحق ،و دفعا لما يتهدد الفرد في حقه المشروع .كما أن الإسلام رتب على هذا الحق أيضا نتائجه الأخرى، وهي حرية التصرف فيه بالبيع أو الشراء و الإجارة و الرهن و الهبة و الوصية و غيرها من أنواع التصرف المباح.
غير أن الإسلام لم يترك (التملك الفردي) مطلقاً من غير قيد، ولكنه وضع له قيوداً كي لا يصطدم بحقوق الآخرين، كمنع الربا و الغش و الرشوة و الاحتكار و نحو ذلك، مما يصطدم ويضيع مصلحة الجماعة .و هذه الحرية لا فرق فيها بين الرجل و المرأة قال الله تعالى : ((للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن )).
أما النوع الثاني:فهو التملك الجماعي :و هو الذي يستحوذ عليه المجتمع البشري الكبير، أو بعض جماعاته، و يكون الانتفاع بآثاره لكل أفراده، و لا يكون انتفاع الفرد به إلا لكونه عضواً في الجماعة، دون أن يكون له اختصاص معين بجزء منه، مثاله :المساجد والمستشفيات العامة والطرق والأنهار والبحار وبيت المال ونحو ذلك. و ما ملك ملكاً عاماً يصرف في المصالح العامة ،و ليس لحاكم أو نائبه أو أي أحد سواهما أن يستقل به أو يؤثر به أحد ليس له فيه استحقاق بسب مشروع وإنما هو مسؤول عن حسن إدارته و توجيهه التوجيه الصحيح الذي يحقق مصالح الجماعة ويسد حاجاتها.
2) وسائل الملكية: و هي طرق اكتسابها التي حددها الإسلام و عينها و حرم ما سواها ويمكن تقسيمها أيضا إلى قسمين :وسائل الملكية الفردية و الجماعية.
- وسائل الملكية الفردية ،و لها مظهران:
المظهر الأول :الأموال المملوكة ،أي المسبوقة بملك ،و هذه الأموال لا تخرج من ملك صاحبها إلى غيره إلا بسب شرعي كالوراثة ،أو الوصية ،أو الشفعة ، أو العقد ،أو الهبة ،أو نحوها.
المظهر الثاني :الأموال المباحة ،أي غير المسبوقة بملك شخص معين ،و هذه الأموال لا يتحقق للفرد تملكها إلا بفعل يؤدي إلى التملك و وضع اليد ،كإحياء موات الأرض و الصيد ،واستخراج ما في الأرض من معادن ،و إقطاع ولي الأمر جزءاً من المال لشخص معين،والعمل ،و نحوه .
على أن ثمة قيوداً على الملكية الفردية ،تجمل فيما يلي:
1/ مداومة الشخص على استثمار المال ،لأن في تعطيله إضراراً بصاحبه ،و بنماء ثروة المجتمع.
2/ أداء زكاته إذا بلغ نصاباً،لأن الزكاة حق المال،و كذلك إنفاقه في سبيل الله.
3/ اجتناب الطرق المحرمة للحصول عليه ،كالربا ،و الغش و الاحتكار و نحوه.
4/ عدم الإسراف في بذله أو التقتير.

- وسائل الملكية الجماعية ،و لها مظاهر كثيرة ،نوجزها في الآتي:
المظهر الأول :الموارد الطبيعية العامة ،و هي التي يتناولها جميع الناس في الدولة دون جهد أو عمل . كالماء ،و الكلأ ،و النار ،و ملحقاتها.
المظهر الثاني :الموارد المحمية ،أي التي تحميها الدولة لمنفعة المسلمين أو الناس كافة ،مثل :المقابر ،والمعسكرات ،و الدوائر الحكومية ،والأوقاف ،والزكوات و نحوها.
المظهر الثالث :الموارد التي لم تقع عليها يد أحد ،أو وقعت عليها ثم أهملتها مدة طويلة كأرض الموات.
المظهر الرابع :الموارد التي تجنيها الدولة بسبب الجهاد كالغنائم والفيء ونحوها

هـ- حرية العمل: العمل عنصر فعال في كل طرق الكسب التي أباحها الإسلام، و له شرف عظيم باعتباره قوام الحياة ولذلك فإن الإسلام أقر بحق الإنسان فيه في أي ميدان يشاؤه ولم يقيده إلا في نطاق تضاربه مع أهدافه أو تعارضه مع مصلحة الجماعة. و لأهمية العمل في الإسلام اعتبر نوعاً من الجهاد في سبيل الله ،كما روى ذلك كعب بن عجرة –رضي الله عنه –قال : (مر على النبي صلى الله عليه و سلم رجل ،فرأى أصحاب الرسول الله صلى الله عليه و سلم من جلده و نشاطه، فقالوا :يا رسول الله ،لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً، فهو في سبيل الله،و إن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ،و إن كان خرج يسعى على نفسه يعضها فهو في سبيل الله، و إن كان خرج يسعى رياء و مفاخرة فهو في سبيل الشيطان). وهكذا نجد كثيراً من نصوص الكتاب و السنة ،تتحدث عن العمل و تحث عليه وتنوه بأعمال متنوعة كصناعة الحديد و نجارة السفن ،و فلاحة الأرض ،و نحو ذلك ،لأن العمل في ذاته وسيلة للبقاء، و البقاء –من حيث هو – هدف مرحلي للغاية الكبرى، و هي عبادة الله، و ابتغاء رضوانه ، وبقدر عظم الغاية تكون منزلة الوسيلة، فأعظم الغايات هو رضوان الله تعالى، و بالتالي فإن أعظم وسيلة إليها هي العمل و التضحية، و إنما نوه القرآن بالعمل والكسب للتنبيه على عظم فائدته و أهميته للوجود الإنساني، وأنه أكبر نعمة الله على الإنسان.

الصنف الثاني :الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية ،و هذا الصنف يشمل الآتي: أ-حرية الاعتقاد: ويقصد بها اختيار الإنسان لدين يريده بيقين، و عقيدة يرتضيها عن قناعة، دون أن يكرهه شخص آخر على ذلك .فإن الإكراه يفسد اختيار الإنسان، و يجعل المكره مسلوب الإرادة ،فينتفي بذلك رضاه و اقتناعه و إذا تأملنا قول الله تعالى : ((لا إكراه في الدين )) نجد أن الإسلام رفع الإكراه عن المرء في عقيدته، و أقر أن الفكر و الاعتقاد لا بد أن يتسم بالحرية، وأن أي إجبار للإنسان، أو تخويفه، أو تهديده على اعتناق دين أو مذهب أو فكره باطل و مرفوض، لأنه لا يرسخ عقيدة في القلب، و لا يثبتها في الضمير. لذلك قال تعالى : ((و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )) و قال أيضاً ((فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر )) كل هذه الآيات و غيرها ،تنفي الإكراه في الدين،و تثبت حق الإنسان في اختيار دينه الذي يؤمن به. هذا و يترتب على حرية الاعتقاد ما يلي:
1) إجراء الحوار و النقاش الديني ،وذلك بتبادل الرأي و الاستفسار في المسائل الملتبسة ،التي لم تتضح للإنسان ،و كانت داخلة تحت عقله و فهمه –أي ليست من مسائل الغيب – وذلك للاطمئنان القلبي بوصول المرء إلى الحقيقة التي قد تخفى عليه، وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة و السلام يحاورون أقوامهم ليسلموا عن قناعة و رضى و طواعية ، بل إن إبراهيم –أبا الأنبياء عليه السلام –حاور ربه في قضية ((الإحياء و الإماتة )) ليزداد قلبه قناعة و يقيناً و ذلك فيما حكاه القرآن لنا في قوله تعالى : ((وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً فلما تبين له قال أعلم أن الله عزيز حكيم )) بل إن في حديث جبريل عليه السلام ،الذي استفسر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ((الإسلام ))و ((الإيمان ))و ((الإحسان )) و ((علامات الساعة )) دليل واضح على تقرير الإسلام لحرية المناقشة الدينية ،سواء كانت بين المسلمين أنفسهم، أو بينهم و بين أصحاب الأديان الأخرى، بهدف الوصول إلى الحقائق و تصديقها، لا بقصد إثارة الشبه و الشكوك و الخلافات، فمثل تلك المناقشة ممنوعة، لأنها لا تكشف الحقائق التي يصل بها المرء إلى شاطئ اليقين.

2) ممارسة الشعائر الدينية ،و ذلك بأن يقوم المرء بإقامة شعائره الدينية ،دون انتقاد أو استهزاء ، أو تخويف أو تهديد،و لعل موقف الإسلام الذي حواه التاريخ تجاه أهل الذمة –أصحاب الديانات الأخرى –من دواعي فخره و اعتزازه ،و سماحته ،فمنذ نزل الرسول صلى الله عليه و سلم يثرب –المدينة المنورة –أعطى اليهود عهد أمان ، يقتضي فسح المجال لهم أمام دينهم و عقيدتهم، و إقامة شعائرهم في أماكن عبادتهم .ثم سار على هذا النهج الخلفاء الراشدون ،فكتب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – لأهل إيلياء –القدس- معاهدة جاء فيها : (( هذا ما أعطاه عمر أمير المؤمنين ، أهل ايلياء من الأمان ،أعطاهم أمانا على أنفسهم ،و لكنائسهم و صلبانهم ،،، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم و لا ينتقص منها و لا من غيرها و لا من صلبهم، و لا يكرهون على دينهم ،و لا يضار أحد منهم )) و ها هم علماء أوروبا اليوم ،يشهدون لسماحة الإسلام ،و يقرون له بذلك في كتبهم .قال ((ميشود )) في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية ) : (( إن الإسلام الذي أمر بالجهاد ،متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى و هو قد أعفى البطاركة و الرهبان و خدمهم من الضرائب،و قد حرم قتل الرهبان –على الخصوص – لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد ذبح الصليبيون المسلمين و حرقوا اليهود عندما دخلوها )) أي مدينة القدس

ب- حرية الرأي: و تسمى أيضا بحرية التفكير و التعبير، وقد جوز الإسلام للإنسان أن يقلب نظره في صفحات الكون المليئة بالحقائق المتنوعة، و الظواهر المختلفة، و يحاول تجربتها بعقله، و استخدامها لمصلحته مع بني جنسه، لأن كل ما في الكون مسخر للإنسان، يستطيع أن يستخدمه عن طريق معرفة طبيعته و مدى قابليته للتفاعل و التأثير ،ولا يتأتى ذلك إلا بالنظر و طول التفكير.
هذا و لإبداء الرأي عدة مجالات و غايات منها:
1) إظهار الحق و إخماد الباطل ،قال تعالى : ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون)) فالمعروف هو سبيل الحق ،و لذلك طلب من المؤمن أن يظهره ،كما أن المنكر هو سبيل الباطل ،و لذلك طلب من المؤمن أن يخمده.
2) منع الظلم و نشر العدل ،و هذا ما فعله الأنبياء و الرسل إزاء الملوك و الحكام و يفعله العلماء و المفكرون مع القضاة و السلاطين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ).
3) و قد يكون إبداء الرأي ،بتقديم الأمور حسب أهميتها و أولويتها، و هذا أكثر ما يقوم به أهل الشورى في أكثر من بلد ،و أكثر من مجتمع و قد يكون بأي أسلوب آخر،إذ من الصعب حصرها ،و لكنها لا تعني أن يخوض الإنسان فيما يضره، ويعود عليه بالفساد، بل لا بد أن تكون في إطار الخير والمصلحة إذ الإسلام بتقريره حرية الرأي ، إنما أراد من الإنسان أن يفكر كيف يصعد، لا كيف ينزل، كيف يبني نفسه و أمته،لا كيف يهدمها سعياً وراء شهوتها وهواها.
وباستعراض التاريخ الإسلامي ،نجد أن ((حرية الرأي )) طبقت تطبيقاً رائعاً ،منذ عصر النبوة ،فهذا الصحابي الجليل ،حباب بن المنذر ، أبدى رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بدر ،على غير ما كان قد رآه النبي صلى الله عليه و سلم ،فأخذ النبي صلى الله علبه و سلم برأيه ، و أبدى بعض الصحابة رأيهم في حادثة الإفك ،و أشاروا على النبي صلى الله عليه و سلم بتطليق زوجته عائشة –رضي الله عنها – إلا أن القرآن برأها ،و غير ذلك من المواقف الكثيرة التي كانوا يبدون فيها آراءهم

ج-حرية التعلم: طلب العلم و المعرفة حق كفله الإسلام للفرد،و منحه حرية السعي في تحصيله،و لم يقيد شيئاً منه، مما تعلقت به مصلحة المسلمين ديناً و دنيا، بل انتدبهم لتحصيل ذلك كله، و سلوك السبيل الموصل إليه، أما ما كان من العلوم بحيث لا يترتب على تحصيله مصلحة، و إنما تتحقق به مضرة و مفسدة، فهذا منهي عنه، و محرم على المسلم طلبه، مثل علم السحر و الكهانة ،و نحو ذلك.
و لأهمية العلم و المعرفة في الحياة ،نزلت آيات القرآن الأولى تأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقراءة قال تعالى: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق الإنسان من علق ،اقرأ و ربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ،علم الإنسان ما لم يعلم)) و القراءة هي مفتاح العلم ،و لذلك لما هاجر النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة،و نصب عليه الكفار الحرب،و انتصر المسلمون و أسروا من أسروا من المشركين، جعل فداء كل أسير من أسراهم ،تعليم القراءة و الكتابة لعشرة من صبيان المدينة و هذا من فضائل الإسلام الكبرى، حيث فتح للناس أبواب المعرفة، و حثهم على و لوجها و التقدم فيها، و كره لهم القعود عن العلم و التخلف عن قافلة الحضارة و الرفاهية و الازدهار. و من أجل ذلك كان على الدولة الإسلامية ،أن تيسر سبل التعليم للناس كافة، و تضمن لكل فرد حقه في ذلك لأن هذا الحق مضمون لكل فرد من رعاياها كسائر الحقوق الأخرى.

د- الحرية السياسية: و يقصد بها حق الإنسان في اختيار سلطة الحكم، و انتخابها ،ومراقبة أدائها، و محاسبتها ،و نقدها، و عزلها إذا انحرفت عن منهج الله و شرعه، و حولت ظهرها عن جادة الحق و الصلاح .
كما أنه يحق له المشاركة في القيام بأعباء السلطة ،و وظائفها الكثيرة ،لأن السلطة حق مشترك بين رعايا الدولة،و ليس حكرا على أحد ،أو وقفا على فئة دون أخرى و اختيار الإنسان للسلطة، قد يتم بنفسه، أو من ينوب عنه من أهل الحل و العقد و هم أهل الشورى، الذين ينوبون عن الأمة كلها في كثير من الأمور منها : القيام بالاجتهاد فيما لا نص فيه ، إذ الحاكم يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة و الاختصاص من ذوى العلم و الرأي، كما أنهم يوجهون الحاكم في التصرفات ذات الصفة العامة أو الدولية كإعلان الحرب، أو الهدنة ، أو إبرام معاهدة، أو تجميد علاقات، أو وضع ميزانية أو تخصيص نفقات لجهة معينة أو غير ذلك من التصرفات العامة، التي لا يقطع فيها برأي الواحد. قال تعالى : (( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله و لرسوله و لأمة المسلمين و عامتهم ).

الاثنين، 20 أكتوبر 2014

أهل الأرض والمتطفلون (إذا مش عاجبتك قوانين البلد اطلع منها)

أهل الأرض والمتطفلون
(إذا مش عاجبتك قوانين البلد اطلع منها)
عبارة قد يسمعها المسلم وهو يحاول الإصلاح في مجتمعه وإنكار المنكرات، مجدفا عكس التيار.
...
والذين يقولونها عادة هم المستكبرون، الذين يرون أنفسهم أصحاب الأرض لأن القوة بأيديهم، فالسماح لك بالعيش ضمن "سلطانهم" كرمٌ منهم وتفضل! ومخالفتك لقوانينهم –بدعوتك القرآنية السنية- جريمة تجيز لهم طردك أو حبسك، على طريقة مَن قَبلهم: (لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودُنَّ في ملتنا). لاحظ: (أرضنا)!
لا عجب أن يتكبر المتكبرون، لكن الخطورة إذا تسرب "منطقهم" هذا إلى نفسك أيها المسلم فأحسستَ أنهم أصحاب الأرض حقا وأنك بدعوتك متطفل! فهذا شكل من أشكال الهزيمة النفسية.
لا بد أن نستحضر دوما أننا نحن -الذين نطيع الله وندعو إلى طاعته- أنا نحن أهل الأرض، وأن الذين يريدون تطويع الناس لأهوائهم هم المتطفلون، وليس العكس.
عندما يقول قائلهم (إذا مش عاجبتك قوانين البلد اطلع منها) فجوابنا جاهز: (إذا لم تعجبك شريعة خالق البلد والكون فاخرج من كونه)!
لو أن صاحب عمل استأجرك مع آخرينَ لبناء بيت في بستان ثم غاب عنكم فترة، فبدأتَ تعمره كما أمرك، وبدأ الآخرون يخربون، ثم صوبوا نحوك الأخشاب والحجارة و"بلطجوا" بها عليك قائلين: (نحن أكثر منك وأشد قوة، لذا فنحن أصحاب البستان، فأطِعْنا أو اخرج من البستان).
قد تخاف من أذاهم، لكنك ترى فعلهم هذا بلطجة ومنطقهم سخيفا، خاصة وأنك تدرك أن صاحب العمل عائد وسيرى ما صنعت وصنعوا. ولن تحس للحظةٍ أنك متطفل، أو أن لديهم "بعض الحق" في إلزامك بما يريدون!
الله عز وجل استخلفنا في هذه الأرض لنعمرها بشرعه وهداه. فمن التزمه فهو من أهلها، ومن خالف فهم المتطفلون.
بيقيني في هذا الأمر أشعر بعمق جذوري في كل أرض أحل بها ولو ذهبت إلى أمريكا، وأشعر أني حين أصلح في مجتمعي بما يرضي الله - كالفصل في مؤسسات التعليم المختلط مثلا- فإنما أعيد الناس إلى الأصل، ولا أجد فيه أية غضاضة أو حرج.
بهذا اليقين تشعر أنك إن جدفتَ بدينك عكس التيار، فالتيار هو الذي يسير في الاتجاه الخاطئ، بينما أنت تسير منسجما مع سائر الكون الذي خلقه الله، بدءاً من حركات الجسيمات في الذرة وانتهاء بكواكب المجرات. وتشعر بمن يشاغبون عليك في أثناء ذلك ويبغونها عوجا من المتسلطين أنهم -مهما بلغوا من القوة- فهم: متطفلون.
فقل لهم: أنا هنا أؤدي مهمتي في كون خلقه الله، فمن لم يعجبه شريعة رب الكون فليخرج منه إن استطاع!
ملاحظة: قد يثير المقال تساؤلات واعتراضات، لذا وضعت بعض التوضيحات في التعليقات.

السبت، 13 سبتمبر 2014

وحدة الصف

:

المتتبِّع لحال الأُمة الإسلاميَّة عامَّة، وحال بلادنا سوريا الحبيبةِ خاصة، ليؤلِمه ما آلَ إليه حالُ المسلمين من التشرذُم والتحزُّب، والفُرقة والاختلاف ما يندى له الجبين وتشيب له الولدان.

أيها الإخوةُ الكرام، إنَّ حقلَ الدعوة إلى الله - تعالى - والعمل لدِينه، مَيدانٌ واسع كبير، لا ينبغي لبعضنا أن يستأثِرَ به دونَ البعض الآخر، وإنما ينبغي أن نسعى دائمًا لتكميل بعضنا بعضًا، ولسَدِّ أيِّ ثغرٍ قد يؤْتَى من قِبَلِه الدِّين، كلٌّ حسبما يَفْقَه ويُحسن، فهذا يدعو إلى التوحيد الخالص وإلى نَبْذ البدع والخُرافات، وآخرُ يَمتلكُ حِسًّا دعويًّا عاليًا يجوبُ به الآفاق، وثالثٌ يُحسن تربيةَ الناس ومعاملتهم، ورابعٌ لَدَيه القدرةُ على الدخول في مُعترك السياسة دون تقديم التنازُلات، وخامسٌ نحسبُ أنه يُتقن العلم؛ ليتصدَّرَ للإفتاء والتأليف، وسادسٌ وسابع ........!

أيُّها الكرام، ما كتبتُ لكم هنا لأَسْرِدَ لكم واقعًا نَلمسه وحاضرًا نعيشه - لعِلمي أنه لا يَخفى على أكثركم - ولكني كتبتُ اليومَ متناسيًا كلَّ ما مضَى، ومُتهللاً ببشائر بدَتْ من بعض عُلمائنا الغيورين على أُمَّتهم ودعوتهم، وإنا لنسأل الله - تعالى - أن يُكَلِّل جهودهم، وأن يوحِّدَ صفوفَهم.

أيُّها العاملون في حقل الدعوة إلى الله، "إن ترابُطَ المسلمين من شأْنه أن يخطوَ بنا خُطوات واسعةً نحو النصر والتمكين، وتعاون الجماعات العاملة في حقل الدعوة من شأْنه أن يُكسِبَ رصيد اً زَخمًا يُؤَثرُ ولا شكَّ في انطلاقتها العالَميَّة"[1].

من أجْل هذا فإنني أتصوَّر أنَّ هذا المشروع - توحيد الصف الإسلامي - سيُلاقي - بإذن الله تعالى - قَبولاً بين أبناء الامة الإسلاميَّة الذين يتلمَّسون تحقيقَ القدْر الأكبر من المكاسب لصالح الدعوة، وقد جمعتُ فيه ما يُقارب العشرين آليَّة لتوحيد الصف الإسلامي[2]، أرى أنها - بإذن الله تعالى - تُحقِّق الوَحْدة والائتلاف بين أبناء الامة الاسلامية  دونَ الحَيْد عن العودة الأصيلة إلى الكتاب والسُّنة، راجيًا الله - تعالى - أن يُوجِدَ لهذا الكلام مَسلكًا عمليًّا لتطبيقه به، وأن يفتحَ له قلوبَ الشبيبة والشيوخ.

آليات مقترحة لتوحيد الصف الإسلامي:

نزْعُ عَباءة القَداسة التي ألْبسها البعضُ للدُّعاة والعلماء، حيثُ لا يقبل أن يُخطئ شيخه أبدًا، ونبْذُ العصبيَّة الممقوتة للأسماء، وضرورة الاتفاق على منهاج الكتاب والسُّنة، لا على منهاج الأشخاص والأهواء.

تغافُر العلماء والدُّعاة وأبناء الجماعات عمَّا صدَر منهم من أخطاء أو شَحناء، أو غيرها - عن قصْدٍ أو دون قصد - وفتْحُ صفحةٍ جديدة قائمة على حُسن الظنِّ وتوسُّم الخير، والتعاون على البرِّ والتقوى.

3   تعميق قضية الوَلاء والبَراء في نفوس الأُمَّة عامَّة،.

تكثيف الأدبيَّات التي تُعنَى بتوحيد المناهج وَفْقَ الكتاب والسُّنة، وتقليل الأدبيَّات الخاصَّة بالجماعات، وتعميم الخطاب الدعوي؛ ليشمل كلَّ أبناء الامة الإسلامية، ولا يكون قاصرًا على أبناء جماعةٍ دون أخرى.

تربية شباب الامة  على احترام الآخر، وقَبول رأْيه - حتى وإنْ كان مخالفًا لِمَا يَنتهجونه، طالَما أنه يستند إلى دليلٍ صحيحٍ من الكتاب والسُّنة.

    تلاقي القيادات الإسلاميَّة والدُّعاة والعلماء في المناسبات المختلفة، والأفضل أن تكون هناك لقاءات دوريَّة ومؤتمرات؛ لمناقشة شؤون الدعوة، وعلى الصعيد الفردي فإنه من السهل على كلِّ داعية أن يتعهَّد إخوانه بالسؤال والزيارة، والتهنئة والموَاساة في المناسبات المختلفة، أو أن يبعثَ بالرسائل التي تبثُّ الدِّفء في العلاقات وتُذيب كلَّ بقايا الشَّحناء والبغضاء، والنَّزْغ الذي يزرعه الشيطان.

 ضرورة الأخْذ بمبدأ المناصحة، وعدم احتكار الحقِّ، والتغافُر في قضايا الخلاف السائغ.

تكثيف التعاون بين الجماعات في القضايا المصيريَّة، والتوحُّد في المواقف التي تستلزمُ عدمَ التنازع والفُرقة أمام أعداء الدِّين.

الرُّقي بمستوى التعاون بين الجماعات العاملة في حقْل الدعوة، عبر تكثيف تبادُل الخبرات الدعويَّة؛ لتوسيع مساحة الدعوة بين شرائح المجتمع، ومن مقاصد هذا الاتجاه أن يتمَّ التنسيق بين القيادات في الأعمال الدعويَّة؛ حيثُ لا يجور بعضنا على بعضٍ، فالمجتمع ساحته رَحبة تتَّسع لعمل كلِّ الدُّعاة، فلنَهْجُرْ مَسْلك التناحُر والتسابُق إلى احتلال المواقع من بعض، وليَكُن النزاعُ بيننا وبين أعداء الله - تعالى.

10   تنمية رُوح المودَّة في الأفراد عبر هجْر مَسلك التحذير وتشويه الصورة، بأن يكون حديث الدُّعاة عن بعضهم حديثَ أخٍ مُحِبٍّ لأخيه، محترم لغَيْبته، فينشأ الناشئون في الامة  على احترامِ كلِّ الدُّعاة وتوقيرهم، والْتماس المعاذيرِ لمخطِّئهم، والدُّعاء لهم جميعًا بظَهْر الغيب.

11 تكوين مجلس حُكماء من قادة ودُعاة الجماعات العاملة في الساحة، يقوم بحسْم النِّزاعات بينها، والتخطيط والسَّعْي لوَحْدة الصف الإسلامي

12  إصدار البيانات المشتركة في حالة الأحداث الجسيمة التي تُلِمُّ بالأُمَّة؛ فإنَّ هذا من شأْنه أن يُشْعِر الشباب بتوحُّد القيادات، فتنموَ رُوحُ العِزَّة الإسلاميَّة في نفوس الشباب ويَزدادوا ثِقَة وطاعةً لقياداتهم.

13  دَرْءُ كلِّ خلاف يحدث بين الأفراد والجماعات، ومحاولة منْعِ تَفَاقُمه، أو التقليل من أضراره ومَفاسده، وتسوية الخلافات عبر المسؤولين، وعدم استخدام المنابر ووسائل الإعلام للحديث عن الخلافات بين الدعوات والدُّعاة.

14  ضرورة التخلُّق بآداب العمل الجماعي، وبآداب الأخوَّة الإسلاميَّة على وجْه العموم، وتطبيق مواثيق المودَّة والموالاة بين المؤمنين.

15  الحدُّ من ظاهرة السَّعْي وراء حشْدِ الشباب إلى الفصيل أو الجماعة التي ينتمي إليها البعض؛ فإنَّ من شأْن هذا الأمر أن يُثيرَ الكثيرَ من الخلافات بين شباب الامة الاسلامية .

16  عدم الحيلولة دون مشاركة شباب أحد الجماعات في الأعمال والأنشطة الدعوية تحت مِظَلة جماعة أخرى، كما ينبغي إِعْمَالُ مبدأ تسديد الخير، والعمل لدين الله مع كلِّ أحد.

17   تشكيل مجلس دعوي في كلِّ مدينة أو منطقة يضمُّ مُمثِّلين عن كافة الطوائف الدعويَّة بالمدينة أو المنطقة، يعمل كآليَّة عامة لتنظيم العمل الدعوي بهذه المنطقة.

أيها الإخوة الأعزَّاء، إنْ كُنَّا نشتاقُ إلى أن تجتمع أُمَّتنا يومًا على كلمة واحدة، وتُوَحَّد صفوفها تحت راية التوحيد، فإننا نُهيبُ بعلمائنا ودُعاتنا وقادتنا أن يَسْعوا جاهدين لتحقيق هذا الأمر، ولعلِّي ألفتُ الانتباه إلى أن مجرَّد تطبيق بعض هذه الآليَّات - ولو في الوقت الحالي - هو أمرٌ يحقِّقُ للدعوة إلى الله - تعالى - زخمًا كبيرًا، ومكاسبَ هائلة، تقتربُ بنا من توحيد الصفِّ الإسلامي.

وأخيرًا، فإنني على يقينٍ من أنَّ أُمَّة "الجسد الواحد" لن تُفَرِّط في شرط الخيريَّة التي خصَّها الله - تعالى - بها في قرآنه؛ ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110]، وهي في ذات الوقت لن تتغافَلَ عن وصْفِ ربِّنا - جل وعلا -: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].


واللهُ وحْده مِن وراء القصد      








السبت، 9 أغسطس 2014



جريدة الكتائب - العدد الثاني والثلاثون
داعش والنظام: الحلف الخفي
إعداد: الشيخ أبو الحسن

هذه الجملة يرددها أهل الثورة وأحرار سوريا ومجاهدوها منذ عدة أشهر، وهم صادقون، ويا له من تشبيه عميق دقيق! أخرجْ من جيبك ورقة نقدية وانظر إلى وجهيها، سترى تفصيلات متشابهة على هذا الوجه وذاك. والآن حاول أن تفصل أحدَ الوجهين عن الآخر. هل ينفصلان؟ إذا استطاع أحدٌ أن يفصل وجهَي ورقة نقد أحدهما عن الآخر فإنه يستطيع أن يفصل داعش عن النظام.

لذلك لم يعد لدى المجاهدين الصادقين في سوريا أدنى شك في أن قتال داعش ليس أقلَّ ضرورةً ولا أقل أهميةً من قتال النظام، ولعل الخلاف الوحيد الذي بقي في الموضوع هو: أيّهما أَولى بالقتال؟ هذه مسألة يجتهد فيها المجتهدون، ورأيي الذي لا أتردد في التصريح به هو أن داعش أَولى بالقتال من النظام، لأنها عدو مستتر يفتك بالجسم من داخله، والنظام عدو ظاهر يأتينا من الخارج فنتنبّه إليه ونجتهد في اتقاء شرّه.

نعم، لقد بات عامة السوريين على يقين لا يداخله شك في أن النظام وداعش حليفان يتكاملان في سعيهما إلى تدمير الثورة السورية والقضاء على جهاد أهل الشام، ولئن بدا بينهما شيءٌ من التنافس فإنما هو تنافس على الكفاءة في تنفيذ هذه المهمة القذرة: أيّهما أسرع من صاحبه فيها وأكثر دهاء وبراعة؟ لكنّ بعض الغافلين (أو المغفّلين) ما يزالون يشكّون في هذه الحقيقة التي باتت أسطعَ من شمس النهار، وهؤلاء يكاد المرء يفقد الثقةَ -بسبب انحيازهم الأعمى إلى داعش- في عقل الإنسان وإنسانية الإنسان. أليست لهم عيون فيبصرون بها؟ أمَا لهم عقول يتدبرون بها ويفكرون؟

عندما انتشرت داعش في دير الزور وإدلب وحماة وحلب والساحل واحتلت مساحات واسعة فيها -في الثلث الثالث من العام الماضي- ماتت تلك الجبهات وتوقف تقدم المجاهدين فيها وبدأ النظام بتحقيق الانتصارات، ومنذ انحسار المد الداعشي عنها اشتعلت تلك الجبهات كلها وعادت بركاناً يغلي بالنار وعاد المجاهدون إلى التقدم السريع فيها جميعاً. جبهة الرقة هي الوحيدة التي عاش النظام فيها في سلام بمعيّة داعش، الصديق الحميم، أفليس هذا وحدَه دليلاً على التواطؤ والانسجام بين الفريقين؟

لو أن أولئك الحمقى الذين ما يزالون يدافعون عن داعش امتلكوا عقول العصافير لرأوا في ذلك دليلاً على خيانة داعش وعمالتها وعداوتها للسوريين، وإذا لم يكفهم هذا الدليل فدونهم المزيدَ من الحقائق والبراهين، فمَن شاء -بعد ذلك كلّه- فليتّبع الحق ومن شاء فليتبع الهوى، والموعد عند رب العالمين، يفصل بيننا وبينهم بالحق، وهو خير الفاصلين.
كان المجاهدون في الساحل يستغيثون ويقولون إن داعش تقطع عليهم الطريق إلى مناطق النظام، وإني أستغفر الله إذ ترددت في تصديق تلك الشكاوى لأنني وجدتها أكبرَ من أن تُصدَّق. نعم، علمت عن داعش ما علمت ولكني لم أظن أن الغباء والوقاحة يصلان بها إلى تلك الدرجة المفضوحة من التواطؤ والخيانة. ثم انكشف الخبيء وظهر المستور، واضطرت داعش إلى الانسحاب من الساحل تحت ضغط المجاهدين، فلم تمضِ ستة أيام حتى وصل المجاهدون إلى كسب!

استطاعت داعش أن تنقذ النظام من حصار المجاهدين في اثنين من المطارات، فضربت لواء رايات الشام الذي كان يحاصر مطار كويرس واستولت على أسلحته وفكّت الحصار عن المطار. أما في الرقة فقد استمر لواء أويس القرني في حصار مطار الطبقة لعدة أشهر، فلما احتلت داعش المحافظة ضربت اللواء وشتت شمله واعتقلت قادته فسلّمتهم للنظام، وحرّرَت عشرات من ضباط وعناصر النظام الذين كانوا في أسْر المجاهدين وأعادتهم إلى أهاليهم آمنين مكرَّمين!

ثم فكّت الحصار عن المطار حتى صارت قوات النظام تخرج منه إلى البومانع التي تبعد عنه عشرة كيلومترات، فتعتقل من تشاء من الثوار والناشطين ثم تعود آمنة إلى المطار، فلا يتعرض لها أحد من عصابة البغدادي بطلقة لا في الذهاب ولا في الإياب! أما اللواء 93 الذي كان تحت حصار المجاهدين فقد فُكّ عنه الحصار بعد سيطرة داعش على الرقة، وتمددت مناطقُ سيطرته حتى وصلت إلى بلدة عين عيسى المحررة!

صار طيران العدو سلاحاً مسانداً لعصابة البغدادي، فما وقعت داعش في موقف حرج يوماً إلا وغطاها الطيران الأسدي من الجو وقصف خصومها بالقذائف والبراميل. بهذه الطريقة دخلت داعش إلى الباب في كانون الثاني الماضي، عندما قصف الطيران الأسدي الكتائب المدافعة عن المدينة ففتح الطريق لقوات الاقتحام الداعشية، وقبلها بأيام قصف طائرات النظام كتائب المجاهدين التي حاصرت داعش في رتيان. وقد تكرر ذلك الفعل الفاضح مرات لا تحصى، آخرها ما شاهدناه خلال الهجوم الداعشي الأخير على البوكمال.

مرّت أرتال داعش التي شاركت في الهجوم بالقرب من مواقع النظام في السخنة دون أن تتعرض إلى أدنى مضايقة، في حين قام طيران النظام الحربي بقصف أرتال المجاهدين التي توجهت من عدة مناطق في دير الزور إلى البوكمال لصد العدوان الداعشي الأثيم! وساند النظام حملة داعش على كباجب والشولا فقصف قوات المجاهدين التي هَبَّت لطرد الغزاة من البلدتين، وقصفت طائراته مجاهدي أحرار الشام وبشائر النصر في العشارة لمنعها من نجدة البوكمال، كما قصف الطيران المروحي بالبراميل المتفجرة الثوار الذين هاجموا عصابة داعش في قرية تل شعير.

وقصف طيرانُ النظام الثوارَ بالقرب من أخترين ليعوق هجومهم الجديد على داعش في ريف حلب الشرقي.

عندما كان النظام يشن هجومه الكبير على قلعة الحصن ويحتل آخر المناطق المحررة في ريف حمص الغربي كانت داعش تشن هجوماً واسعاً على قرى الريف الشرقي، حيث نجحت في السيطرة على الزعفرانة ودير فول وجباب حمد، ونفذت حملة مسعورة لتدمير الكتائب المحلية والاستيلاء على أسلحتها، وهي تتمدد بسرعة في ريف حمص الشرقي وتحاول عزل محافظة حمص عن بقية المحافظات.

لقد سيطرت داعش على طريق البادية فقطعت كل الإمدادات التي كانت تنتقل من الشرق إلى ريف حمص والقلمون وريف دمشق الشرقي، وقد تعرّض رتل من النصرة -خلال تحرّكه إلى حمص- لكمين داعشي تسبب في استشهاد أكثر عناصره، كما قامت داعش باعتراض قافلة لجيش الإسلام في منطقة جباب حمد في ريف حمص الشرقي فأسرت المجاهدين وصادرت السلاح.

إننا نعلم الآن أن داعش ليست سوى اختراق مخابراتي يهدف إلى خنق الثورة وتدمير الجهاد السوري. ولئن نجح أعداؤنا في اختراق الغالبية العظمى من كتائب الجيش الحر والفصائل الجهادية والمؤسسات الإعلامية والإغاثية فإنها تبقى اختراقات فرديةً لا يمكن تجنبها والاحتراز منها إلا بتعطيل العمل الثوري بالكلّية، ولا يُعَدّ أي اختراق من هذا النوع تهديداً جوهرياً للثورة.

إنّ التهديدَ الجوهري للثورة والانتصارَ الحقيقي الكامل الوحيد لأعدائنا والاختراقَ الأكبر في تاريخ الثورة السورية هو مشروعُ داعش، فهو الاختراق الوحيد الذي زرع فينا جسماً كاملاً معادياً مدمراً لثورتنا وجهادنا، ونجح في حمايته ورعايته بأموال المسلمين المغفَّلين وأرواح الحمقى المغيَّبين من الشبان الأغرار. فماذا نصنع مع هذه الشجرة الخبيثة؟ لا حل إلا بقلعها من الجذور، لا حل إلا بقتال البغاة الظالمين المعتدين.


واليوم يبدو هذا الحلف الخفي في طريقه إلى تنفيذ مخطط جديد بعد تغيير الاستراتيجية المتبعة، فالمعارك الأخيرة التي جرت في الرقة والحسكة تنبئ بأوضاع جديدة ومؤامرة تحاك في الخفاء، وستثبت الأيام مدى دقة هذا الكلام  


الاثنين، 4 أغسطس 2014

السلفية

السلفية
إعداد: الشيخ أبو الحسن
السلفية هي نزعة أو تيار في الفكر الإسلامي يدعو إلى تطبيق الإسلام عقيدة وعبادات كما ورد في الكتاب والسنة، ويعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أشهر الأصوليين الذين أصلوا للسلفية، وفي العصر الحديث أعاد محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي إحياء فكر ابن تيمية والدعوة السلفية في حركته الإصلاحية التي بدأها في نجد في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. ثم في نهايات القرن العشرين بدأت بوادر الانشقاقات في الحركة السلفية والتي أفضت في نهاية المطاف إلى ثلاثة تيارات على نزاع وتراشق فيما بينها، وهذه التيارات الثلاثة هي: السلفية الجامية، السلفية الإصلاحية ( السرورية)، السلفية الجهادية (تنظيم القاعدة ومن على نهجه).
إن النزاعات التي قامت منذ نهاية القرن العشرين بين الجماعات الإسلامية مرده إلى الخلافات بين هذه التيارات الثلاثة. والنزاع الذي نشب بين مجاهدي أفغانستان أو بين مجاهدي العراق أو بين مجاهدي سوريا تعليله وفهم أبعاده يكمن في الخلافات العقائدية والمنهجية بين هذه التيارات الثلاثة، وبشكل خاص النزاع الجاري اليوم في سوريا بين ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام وما يسمى الجبهة الإسلامية، هو نزاع بين السلفية الجهادية الممثلة بالدولة الإسلامية وبين السلفية الجامية والسرورية ممثلتان بالجبهة الإسلامية، ويغذيه ويدعمه من له مشاكل مسبقة مع التيار الجهادي.
 السلفية الجامية (المرجئة):
ظهر الإرجاء في الفكر الإسلامي مع نهايات القرن الأول الهجري، وكان ظهوره مرتبطاً أساساً بحالة الصراع الذي نشب بعد مقتل عثمان بن عفان بين علي ومعاوية، هذا الصراع أوجد في نهايته ثلاث طوائف هي: قسم وقف مع علي ضد معاوية، وقسم مع معاوية ضد علي، والخوارج الذين عادوا الطرفين.
ورغم أن الصراع العسكري انتهى إلا أن الصراع الفكري ظل قائماً ومستمراً وظل يدور محوره حول هل علي وأصحابه على حق، أم من قاتل علياً وأصحابه هم أهل الحق؟ وتطرّف الجدال حتى وقع الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنشأ تبعاً لذك موقف من عدد من فقهاء الأمة يقول: إن ما جرى بين الصحابة من نزاع الحكم فيه مرجعه إلى الله وهو يفصل فيما اختلفوا فيه، ويجب السكوت عما شجر وعدم الخوض في أصحاب النبي. كان هذا الموقف هو البذرة الأولى للإرجاء. وسمي إرجاءاً لأنه أجل الحكم بين المتخاصمين من أصحاب النبي إلى يوم القيامة.
لقد كان الإرجاء في بدايته موقفاً سليماً صائباً من فقهاء الأمة، القصد منه إغلاق باب النزاع وإخماد الفتنة التي نشأت بعد مقتل عثمان، والتي استنزفت طاقات الأمة، وقصد منه طي صفحة الماضي والتطلع نحو المستقبل.
إلا أن فكرة الإرجاء تلك ما لبثت أن تسللت إلى عقيدة البعض كموقف من شتى القضايا العقائدية، ولا سيما ما يتعلق بالتكفير وما يتعلق بالموقف من تصرفات الحاكم وتجاوزاته، و خلاصة الموقف من المرجئة كان عدم تكفير من نطق بالشهادتين وأن فعل ما فعل وترك أمره لله. وقد وجهت انتقادات كثيرة لعقيدة الإرجاء حيث قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم (يعني المرجئة) أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة (الخوارج)، قال شريك القاضي وذكر المرجئة: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون على الله.
كانت عقيدة الإرجاء فكراً مناسباً وموافقا للحكام، فبموجبه صار الحاكم طليقاً من قيد الشريعة على تصرفاته، فأصبح يستطيع أن يفعل ما شاء وهو بمنجاة عن التكفير أو التفسيق، لذلك كان الإرجاء سلعة تعجب الملوك، دافعوا عنها وقربوا أهلها على عكس فكر الخوارج، وأصبحت العلاقة بين المرجئة والحكام علاقة تكاملية كل طرف يستمد وجوده من الآخر. فالمرجئة أخذت من الحاكم المال والجاه، والحاكم أخذ منها المشروعية لوجوده والدفاع عنه.
بقيت عقيدة الإرجاء فكراً موجوداً وتتراوح حاله بين ضعف وقوة حتى كان عصرنا الحديث حيث أعيد بعث الإرجاء كفكر وعقيدة، وسخر له الإعلام والمنابر والأموال والعلماء، ويرتبط ظهور المرجئة كقوة فاعلة في المجتمع المعاصر بحادثة الغزو العراقي للكويت وما تبع ذلك من استصدار فتوى رسمية من هيئة كبار العلماء في السعودية تجيز الاستعانة بالقوات الأمريكية ونزولها في الجزيرة العربية، وهو ما أدى إلى انقسام بين علماء السعودية بين مؤيد ومعارض.
وقد قام المنهج الجامي على الركائز التالية:
1-      احتكار التسمي بالسنة والسلفية وتضليل بقية التيارات والجماعات السلفية الأخرى فضلاً عن الجماعات الإسلامية خارج الإطار السلفي
2-      موقف متشدد من العمل السياسي والحزبي والانتخابات والتقارب مع الآخرين في الصف الإسلامي وحتى الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني كما أنه مغال في ما يسمى طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه وتحريم الثورات والمظاهرات والعمل السياسي العام ضد النظام الحاكم.
3-      اختلاق الأعذار للحكام في كل ما يجترحونه، ويسعون في الوشاية على الدعاة ورفع التقارير فيهم للحكام ويعدونه قربة ومعروفاً وعملاً صالحاً يتقربون به إلى الله.
4-      يقولون بوجوب طاعة ولي الأمر وإن كان فاسقاً أو كافراً، وعدم جواز الخروج عليه، وعلى هذا الأصل حرموا جهاد القوات الامريكية في العراق كما في فتاوى عبد المحسن العبيكان في هذا الشأن.
5-      العداء المستحكم للتيار الجهادي المتمثل بتنظيم القاعدة ومن على شاكلته واعتبارهم خوارج يجب قتالهم.
في الواقع تبقى أصول الجامية من المتغيرات بحسب الظروف والمصلحة، باستثناء طاعة ولي الأمر المطلقة، فهم مثلاً يحرمون الانتخابات والديمقراطية، لكن عندما صدرت الأوامر لهم في مصر بالاشتراك بالانتخابات والترويج لها ساهموا فيها كما فعل برهامي وحزب النور السلفي في مصر.
مات شيخ الجامية محمد أمان الجامي بسرطان في لسانه، وحمل راية الجامية بعده ربيع المدخلي، فنشأ في الجامية تيار سمي ب(المدخلية) نسبة لربيع المدخلي. تابع المدخلي عمله في الهجوم على رموز الصحوة وعلماء السلفية من التيارات الأخرى، وأضاف إلى ذلك هجوماً واسعاً شمل الإخوان المسلمين ورموزهم كالبنا وسيد قطب، وله مؤلفات كثيرة جرّح فيها بخصومه وعرض مثالبهم. واتسمت الفترة التي لمع فيها اسم المدخلي بكثرة الانشقاقات في الجامية والتراشق بالتهم والسباب بين أعلامها.
سيطر الجاميون على الجامعة الإسلامية واستطاعوا من خلالها نشر فكر الإرجاء، لا في السعودية فقط، بل في العالم الاسلامي كله، عن طريق طلاب الجامعة الذين تم تلقينهم تلك الأفكار، فحملوها وعادوا بها إلى بلادهم بعد إنهاء دراستهم، لينشؤوا في بلادهم تجمعات جامية هناك، لذلك اليوم يعتبر كل من درس في الجامعة الإسلامية في فترة التسعينيات وما بعدها جامي العقيدة حتى يثبت العكس .
الجامية السورية :
إلى الفترة قبل عام 1998 كان رأس التيار السلفي في سوريا هو الشيخ عبد القادر أرناؤوط رحمه الله، ثم بعد عام 1998 بدء ينتشر الفكر الجامي وكان أول من روج للجامية ومنهجهم في ريف دمشق هو الشيخ عبد الله علوش (والد زهران علوش)، وقد اقتبس هذا الفكر نتيجة إقامته في السعودية، فكان من أوائل من نشر كتب ربيع المدخلي التي تناولت الطعن في سيد قطب والسلفية الإصلاحية والجهادية ، وقام بحركة تنفير للشباب السلفي من مشايخ الصحوة آنذاك، كسفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر، متهما إياهم بالخروج أو التخطيط للخروج على ولي الأمر، وأنهم حركيون وقطبيون ودعاة فتنة، مقتفياً أثر الجامية السعودية.
السرورية:
السلفية التقليدية هي ما يمكن تعريفها بأنها مدرسة تاريخية أخلاقية، أي تستمد أفكارها ومنهجها من السلف الصالح، وهي تيار يركز على العبادات والعقيدة أكثر من تركيزه على الواقع والسياسة. أما السرورية فهي حركة جمعت بين المنهج السلفي في العقيدة والعبادات، والمنهج الإخواني الحركي في السياسة والجهاد، فخرج من هذا التزاوج والتلاقح ما عرف باسم السلفية السرورية.
يعود ظهور هذا التيار إلى شخصية إخوانية سورية من حوران اسمه محمد سرور زين العابدين، كان منذ منتصف الخمسينيات أحد أعضاء تنظيم الإخوان الدمشقيين الذي يتزعمه عصام العطار، ثم نشأ خلاف بينه وبين قادة التنظيم بسبب امتناع التنظيم عن العمل الحركي في السعودية، فانشق عنهم أواخر الستينيات، ثم ترك سوريا وهاجر إلى السعودية كمدرس لمادة الرياضيات، وأقام معظم وقته هناك في منطقة القصيم (بريدة) حيث معقل التيار السلفي في نجد، ومن خلال عمله كمدرس هناك نشر بين طلابه الفكر الإخواني الحركي، ولا سيما فكر سيد قطب، فجمع بين عباءة محمد بن عبد الوهاب وبنطال سيد قطب، فخرج جيلاً من الطلبة والعلماء يعتقد بالعقيدة السلفية ومنظم كجماعة وحركة على طريقة الإخوان ويعتقد منهج سيد قطب في السياسة والجهاد، سمي أتباع هذا المنهج بالسروريين نسبة لابن سرور.
شهد التيار السروري الفترة الذهبية له في السعودية وخارجها خلال فترة الثمانينيات حتى أواسط التسعينيات من خلال علمائه ودعاته، وما من أحد يدين بالسلفية اليوم إلا وتأثر فكرياً بطروحات علماء المنهج السروري، التي مثلها في ذلك الوقت جملة من مشايخ السعودية منهم سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر وبكر أبو زيد وعائض القرني وعلي القرني.. واستفادت الحكومة السعودية من نشاط أفراده و غضت الطرف عنه وأطلقت له حرية العمل خلال الثمانينيات لتجنيد المقاتلين لحرب الأفغان ضد الشيوعيين. لكن ما إن انتهت الحرب الأفغانية حتى بدأ الجفاء بين الطرفين. ونستطيع تحديد الانقلاب ضد التيار السروري بحادثة الغزو العراقي للكويت وإنزال القوات الأمريكية في الجزيرة العربية، فقامت السلطات السعودية ابتداءاً من مطلع التسعينيات بترحيل ابن سرور من السعودية بعد أن أصبح يشكل خطراً. تبع ذلك إعلان حرب بدأتها السعودية على التيار السروري بعد أن جاهر أتباعه من العلماء برفضهم لنزول القوات الأمريكية في الجزيرة العربية.
بدأت الحرب الحكومية على أتباع التيار السروري في بدايتها إعلامية من خلال التيار الجامي الذي استحدث لتمرير فتاوى الاستعانة بالأجنبي وللهجوم على المعارضين لهذا الوجود، والذين كانوا بطبيعة الحال هم السروريون، ومع نهاية التسعينيات تم تطويق التيار السروري بسجن علمائه أو إقصائهم وتهميشهم .
خلال فترة سجن رموز التيار السروري خلال العقد الماضي حدث التحول في منهج وأفكار قادة التيار، وانقلبوا على ماضيهم، وبعد إخراجهم من السجون بشكل مفاجئ لوحظ التحول الكبير في أفكار علماء التيار.
لقد أصبح التيار السروري، الذي عرف في الثمانينات والتسعينيات بأنه واضح العقيدة واضح الطروحات ...، أصبح اليوم تياراً زئبقياً متحولاً متلوناً بحسب الظروف، وأصبح مثله مثل التيار الجامي وإن كانت طروحاته ليست بنفس وضوح التيار الجامي، لكن كليهما لا يعارض التوجهات السياسية الرسمية، إن لم يكن يعمل بحسب هذه التوجهات .
السرورية السعودية وعلاقتها بالثورة السورية:
يعتبر عصام العويد هو صلة الوصل بين التيار السروري والكتائب السورية المقاتلة من جهة، وبين تلك الكتائب والسلطات السعودية.
إذا كان زهران علوش يمثل الطرف الجامي في الثورة السورية، وهو طرف صنع فيما مضى بواسطة السلطة السعودية لضرب السرورية السعودية، فإن حركة أحرار الشام بقياداتها هي الطرف الأقرب للمنهج السروري. وعلى اعتبار أن نوعاً من المصالحة تم بين التيار السروري السعودي والحكومة فإن كلا الطرفين الجامي والسروري أصبحا على مسافة واحدة من السلطة الحاكمة ويعملان بما يتوافق مع السياسة السعودية وإن كان بينهما تناقض في الظاهر.
و كما كان عصام العويد صلة الوصل بين السروريين والداخلية السعودية، فإنه هو نفسه صار صلة الوصل بين كتائب الداخل وكلا الطرفين، وهو من رشح حركة أحرار الشام وزهران علوش ليكونوا أهلاً للثقة عند كلا الطرفين، ومن خلاله صارت المساعدات تصل لكلا الطرفين مع منعها عن الأطراف الأخرى. وفي إحدى تغريدات العويد في تويتر قال: "كلنا ندعم أحرار الشام ."
شارك العويد مشاركة مباشرة في إنشاء جيش الإسلام، بل هو الذي صاغ استراتيجيته النهائية ووافق على أعضاء قيادته .ويدفع العويد كل الرواتب التي تُصرف للمجندين الاحتياطيين لجيش الإسلام، وهم أعداد هائلة من الشباب السوري تدفع لهم رواتب وهم جلوس في البيوت بشرط حضورهم عند الطلب.

المشكلة الكبرى في عقلية المسلمين وواقعهم ليست في أنه هناك أناس يسكرون أو يزنون أو يسرقون... بل في افتقادهم إلى فهم عقيدتهم، أو حتى الإلمام بها. هم لا يعلمون علاقتهم بربهم، فضلاً على أن يعلموا من هو ربهم على وجه الحقيقة. كما أنهم لا يعرفون ما هي جماعة المسلمين وموقعهم من هذه الجماعة وعلاقتهم بها وعلاقتها بهم (الولاء والبراء).